فصل: تفسير الآية رقم (11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (10):

{قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا}.
الْمُرَادُ بِالْآيَةِ هُنَا الْعَلَامَةُ، أَيِ: اجْعَلْ لِي عَلَامَةً أَعْلَمُ بِهَا وُقُوعَ مَا بُشِّرْتُ بِهِ مِنَ الْوَلَدِ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: طَلَبَ الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ لِتَتِمَّ طُمَأْنِينَتُهُ بِوُقُوعِ مَا بُشِّرَ بِهِ، وَنَظِيرُهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [2/ 260]، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْعَلَّامَةِ أَنْ يَعْرِفَ ابْتِدَاءَ حَمْلِ امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ فِي أَوَّلِ زَمَنِهِ يَخْفَى.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا أَيْ: عَلَامَتُكَ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ، أَيْ: أَنْ تُمْنَعَ الْكَلَامَ فَلَا تُطِيقُهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ بِأَيَّامِهِنَّ فِي حَالِ كَوْنِكَ سَوِيًّا، أَيْ: سَوِيَّ الْخَلْقِ، سَلِيمَ الْجَوَارِحِ، مَا بِكَ خَرَسٌ وَلَا بُكْمٌ وَلَكِنَّكَ مَمْنُوعٌ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي آلِ عِمْرَانَ، أَمَّا ذِكْرُ اللَّهِ فَلَيْسَ مَمْنُوعًا مِنْهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [3/ 41]، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى، ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا، أَيْ: ثَلَاثَ لَيَالٍ مُتَتَابِعَاتٍ غَيْرُ صَوَابٍ، بَلْ مَعْنَاهُ هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ كَوْنِ اعْتِقَالِ لِسَانِهِ عَنْ كَلَامِ قَوْمِهِ لَيْسَ لِعِلَّةٍ وَلَا مَرَضٍ حَدَثَ بِهِ، وَلَكِنْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ قَالَ تَعَالَى هُنَا: {ثَلَاثَ لَيَالٍ} وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهَا أَيَّامَهَا، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ الْأَيَّامَ فِي آلِ عِمْرَانَ، فِي قَوْلِهِ: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [3/ 41]، فَدَلَّتِ الْآيَتَانِ عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثُ لَيَالِي بِأَيَّامِهِنَّ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ، يَعْنِي إِلَّا بِالْإِشَارَةِ أَوِ الْكِتَابَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ هُنَا: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [19/ 11]، وَقَوْلُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [3/ 41]؛ لِأَنَّ الرَّمْزَ: الْإِشَارَةُ وَالْإِيمَاءُ بِالشَّفَتَيْنِ وَالْحَاجِبِ، وَالْإِيحَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا الْآيَةَ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ الْإِشَارَةُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِلَّا رَمْزًا} كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الْوَحْيَ فِي الْآيَةِ الْإِشَارَةُ: قَتَادَةُ، وَالْكَلْبِيُّ، وَابْنُ مُنَبِّهٍ، وَالْعُتْبِيُّ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَالسُّدِّيِّ: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ}، أَيْ: كَتَبَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ: كَتَبَ لَهُمْ فِي كِتَابٍ، وَالْوَحْيُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ إِلْقَاءٍ فِي سُرْعَةٍ وَخَفَاءٍ، وَلِذَلِكَ أَطْلَقَ عَلَى الْإِلْهَامِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} الْآيَةَ [16/ 68]، وَعَلَى الْإِشَارَةِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا} الْآيَةَ [19/ 11]، وَيُطْلَقُ عَلَى الْكِتَابَةِ كَمَا هُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَإِطْلَاقُ الْوَحْيِ عَلَى الْكِتَابَةِ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
فَمَدَافِعُ الرَّيَّانِ عُرِّيَ رَسْمُهَا ** خَلَقًا كَمَا ضَمِنَ الْوُحِيُّ سِلَامُهَا

فَقَوْلُهُ الْوُحِيُّ بِضَمِّ الْوَاوِ وَكَسْرِ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، جَمْعُ وَحَيٍ بِمَعْنَى الْكِتَابَةِ.
وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ:
كَوَحْيِ صَحَائِفَ مِنْ عَهْدِ كِسْرَى ** فَأَهْدَاهَا لِأَعْجَمَ طِمْطِمِي

وَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
سِوَى الْأَرْبَعِ الدُّهْمِ اللَّوَاتِي كَأَنَّهَا ** بَقِيَّةٌ وُحِيٍّ فِي وَنِّ الصَّحَائِفِ

وَقَوْلُ جَرِيرٍ:
كَأَنَّ أَخَا الْكِتَابِ يَخُطُّ وَحَيًا ** بِكَافٍ فِي مَنَازِلِهَا وَلَامِ

.تفسير الآية رقم (11):

{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ زَكَرِيَّا خَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ، أَوْ كَتَبَ لَهُمْ: أَنْ سَبِّحُوا اللَّهَ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ، فَالْبُكْرَةُ أَوَّلُ النَّهَارِ، وَالْعَشِيُّ آخِرُهُ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي آلِ عِمْرَانَ أَنَّ هَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ زَكَرِيَّا قَوْمَهُ بِالْإِشَارَةِ أَوِ الْكِتَابَةِ مِنَ التَّسْبِيحِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ زَكَرِيَّاءَ بِهِ أَيْضًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [3/ 41]، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْمِحْرَابَ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ عَلَى قَوْمِهِ هُوَ الْمِحْرَابُ الَّذِي بُشِّرَ بِالْوَلَدِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِيهِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [3/ 39]، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَالْمِحْرَابُ: أَرْفَعُ الْمَوَاضِعِ، وَأَشْرَفُ الْمَجَالِسِ، وَكَانُوا يَتَّخِذُونَ الْمَحَارِيبَ فِيمَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ اهـ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَحَارِيبُ: صُدُورُ الْمَجَالِسِ، وَمِنْهُ سُمِّي مِحْرَابُ الْمَسْجِدِ، وَالْمِحْرَابُ: الْغُرْفَةُ، قَالَ وَضَّاحُ الْيَمَنِ:
رَبَّةُ مِحْرَابٍ إِذَا جِئْتُهَا ** لَمْ أَلْقَهَا أَوْ أَرْتَقِي سُلَّمًا

وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} الْآيَةَ [3/ 37].
ؤتَنْبِيهٌ أَخَذَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَشْرُوعِيَّةَ ارْتِفَاعِ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِينَ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْمِحْرَابَ مَوْضِعُ صَلَاةِ زَكَرِيَّا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [3/ 39]، وَالْمِحْرَابُ أَرْفَعُ مِنْ غَيْرِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا ذُكِرَ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ارْتِفَاعَ إِمَامِهِمْ عَلَى الْمَأْمُومِينَ كَانَ مَشْرُوعًا عِنْدَهُمْ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، مُتَمَسِّكًا بِقِصَّةِ الْمِنْبَرِ، وَمَنَعَ مَالِكٌ ذَلِكَ فِي الِارْتِفَاعِ الْكَثِيرِ دُونَ الْيَسِيرِ، وَعَلَّلَ أَصْحَابُهُ الْمَنْعَ بِخَوْفِ الْكِبْرِ عَلَى الْإِمَامِ.
قُلْتُ: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَأَحْسَنُ مَا فِيهِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ هَمَّامٍ: أَنَّ حُذَيْفَةَ أَمَّ النَّاسَ بِالْمَدَائِنِ عَلَى دُكَّانٍ، فَأَخَذَ أَبُو مَسْعُودٍ بِقَمِيصِهِ فَجَبَذَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ هَذَا، أَوْ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ؟ قَالَ بَلَى، ذَكَرْتُ ذَلِكَ حِينَ مَدَدْتَنِي، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَدَيِّ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ بِالْمَدَائِنِ، فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَتَقَدَّمَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَقَامَ عَلَى دُكَّانٍ يُصَلِّي وَالنَّاسُ أَسْفَلَ مِنْهُ فَتَقَدَّمَ حُذَيْفَةُ فَأَخَذَ عَلَى يَدَيْهِ فَاتَّبَعَهُ عَمَّارُ حَتَّى أَنْزَلَهُ حُذَيْفَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ عَمَّارٌ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: أَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا أَمَّ الرَّجُلُ الْقَوْمَ فَلَا يَقُمْ فِي مَكَانٍ أَرْفَعَ مِنْ مَقَامِهِمْ» أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ عَمَّارٌ: لِذَلِكَ اتَّبَعْتُكَ حِينَ أَخَذْتَ عَلَى يَدَيَّ.
قُلْتُ: فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ قَدْ أَخْبَرُوا بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَحْتَجَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى صَاحِبِهِ بِحَدِيثِ الْمِنْبَرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِهِ: أَنَّ فِيهِ عَمَلًا زَائِدًا فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ النُّزُولُ وَالصُّعُودُ، فَنُسِخَ كَمَا نُسِخَ الْكَلَامُ وَالسَّلَامُ، وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا اعْتَذَرَ بِهِ أَصْحَابُنَا مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعْصُومًا مِنَ الْكِبْرِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَئِمَّةِ يُوجَدُونَ لَا كِبْرَ عِنْدِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَلَّلَهُ بِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْمِنْبَرِ كَانَ يَسِيرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: سَنَتَكَلَّمُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، وَنُبَيِّنُ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَدِلَّتَهُمْ وَمَا يَظْهَرُ رَجَّحْنَاهُ بِالدَّلِيلِ.
أَمَّا الْحَدِيثَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَبِي دَاوُدَ فَقَدْ سَاقَهُمَا أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ وَأَحْمَدُ بْنُ الْفُرَاتِ أَبُو مَسْعُودٍ الرَّازِيُّ الْمَعْنَى قَالَ: ثَنَا يَعْلَى، ثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامٍ: أَنَّ حُذَيْفَةَ أَمَّ النَّاسَ بِالْمَدَائِنِ عَلَى دُكَّانٍ، فَأَخَذَ أَبُو مَسْعُودٍ بِقَمِيصِهِ فَجَبَذَهُ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ثَنَا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو خَالِدٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ بِالْمَدَائِنِ، إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ الْأَخِيرَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ فِيهِ عَنْ عَمَّارٍ رَجُلٌ لَا يُدْرَى مَنْ هُوَ كَمَا تَرَى، وَأَمَّا الْأَثَرُ الْأَوَّلُ فَقَدْ صَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا صَرِيحًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْأَثَرِ وَالْحَدِيثِ الْمَذْكُورَيْنِ: وَيُعَارِضُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ: أَنَّ حُذَيْفَةَ أَمَّ النَّاسَ بِالْمَدَائِنِ عَلَى دُكَّانٍ فَأَخَذَ أَبُو مَسْعُودٍ بِقَمِيصِهِ فَجَبَذَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ؟ قَالَ بَلَى، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْحَاكِمِ التَّصْرِيحُ بِرَفْعِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَفِيهِ أَنَّ الْإِمَامَ كَانَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَالَّذِي جَبَذَهُ حُذَيْفَةُ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ لَكِنَّ فِيهِ مَجْهُولٌ، وَالْأَوَّلُ أَقْوَى، وَيُقَوِّيهِ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُومَ الْإِمَامُ فَوْقَ شَيْءٍ وَالنَّاسُ خَلْفَهُ أَسْفَلَ مِنْهُ، اهـ. مِنَ التَّلْخِيصِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ صَلَاةِ حُذَيْفَةَ عَلَى الدُّكَّانِ وَجَبْذِ أَبِي مَسْعُودٍ لَهُ الْمَذْكُورِ: رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَمَنْ لَا يُحْصَى مِنْ كِبَارِ الْمُحَدِّثِينَ وَمُصَنِّفِيهِمْ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَيُقَالُ جَذَبَ وَجَبَذَ، لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ اهـ. مِنْهُ، وَأَمَّا قِصَّةُ الْمِنْبَرِ الَّتِي أَشَارَ لَهَا الْقُرْطُبِيُّ، وَقَالَ: إِنَّهَا حُجَّةُ مَنْ يُجِيزُ ارْتِفَاعَ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ، فَهِيَ حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ وُضِعَ، فَكَبَّرَ وَهُوَ عَلَيْهِ ثُمَّ رَكَعَ ثُمَّ نَزَلَ الْقَهْقَرَى فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، ثُمَّ عَادَ حَتَّى فَرَغَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعْلَمُوا صَلَاتِي» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، أَمَّا أَقْوَالُ الْأَئِمَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيهَا هُوَ كَرَاهَةَ عُلُوِّ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ، وَكَذَلِكَ عَكْسُهُ إِلَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، كَارْتِفَاعِ الْإِمَامِ لِيُعَلِّمَ الْجَاهِلِينَ الصَّلَاةَ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِلَاتِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِقَصْدِ التَّعْلِيمِ، وَكَارْتِفَاعِ الْمَأْمُومِ لِيُبَلِّغَ غَيْرَهُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ تَكْبِيرَاتِ الْإِمَامِ فَإِنْ كَانَ ارْتِفَاعُ أَحَدِهِمَا لِنَحْوِ هَذَا الْغَرَضِ اسْتُحِبَّ لَهُ الِارْتِفَاعَ لِتَحْصِيلِ الْغَرَضِ الْمَذْكُورِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: هَذَا مَذْهَبُنَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ، أَنَّهُ يَكْرَهُ الِارْتِفَاعَ مُطْلَقًا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ: أَنَّهُ قَالَ تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ.
وَأَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْمَسْأَلَةِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ عُلُوِّ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ وَعَكْسِهِ، فَعُلُوُّ الْمَأْمُومِ جَائِزٌ عِنْدَهُ، وَقَدْ رَجَعَ إِلَى كَرَاهَتِهِ، وَبَقِيَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَلَى قَوْلِهِ بِجَوَازِهِ، وَعُلُوُّ الْإِمَامِ لَا يُعْجِبُهُ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ وَالْإِمَامُ فِي دَاخِلِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ كَرِهَهُ، وَأَخَذَ ابْنُ الْقَاسِمِ بِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ، انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَوَّاقِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ خَلِيلِ بْنِ إِسْحَاقَ فِي مُخْتَصَرِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا يَجُوزُ، وَعُلُوُّ مَأْمُومٍ وَلَوْ بِسَطْحٍ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ أَيْضًا قَالَ مَالِكٌ: إِذَا صَلَّى الْإِمَامُ بِقَوْمٍ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ خَلْفَهُ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يُعْجِبُنِي، انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَوَّاقِ أَيْضًا، وَقَوْلِهِ «يُعْجِبُنِي» ظَاهِرٌ فِي الْكَرَاهَةِ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْمَنْعِ، وَفِي وُجُوبِ إِعَادَةِ الصَّلَاةِ قَوْلَانِ.
وَمَحَلُّ الْخِلَافِ مَا لَمْ يَقْصِدِ الْمُرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِهِ التَّكَبُّرَ عَلَى النَّاسِ، فَإِنْ قَصَدَ ذَلِكَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَهُمْ إِمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ذَكَرَهَا خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي قَوْلِهِ: وَعُلُوُّ مَأْمُومٍ وَلَوْ بِسَطْحٍ لَا عَكْسُهُ، وَبِطَلَبٍ بِقَصْدِ إِمَامٍ وَمَأْمُومٍ بِهِ الْكِبْرَ إِلَّا بِكَشِبْرٍ اهـ، وَقَوْلُهُ إِلَّا بِكَشِبْرٍ يَعْنِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ الِارْتِفَاعُ بِكَشِبْرٍ، وَنَحْوُ الشِّبْرِ عَظْمُ الذِّرَاعِ عِنْدَهُمْ، وَمَحَلُّ جَوَازِ الِارْتِفَاعِ الْيَسِيرِ الْمَذْكُورِ مَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْكِبْرُ، فَقَوْلُهُ إِلَّا بِكَشِبْرٍ مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ لَا عَكْسُهُ لَا مِنْ مَسْأَلَةِ قَصْدِهِ الْكِبْرَ فَالصَّلَاةُ فِيهَا بَاطِلَةٌ عِنْدَهُمْ مُطْلَقًا: قَالَ الْمَوَّاقُ فِي شَرْحِهِ لِكَلَامِ خَلِيلٍ الْمَذْكُورِ مِنَ الْمُدَوَّنَةِ: كَرِهَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ عَلَى شَيْءٍ أَرْفَعَ مِمَّا يُصَلِّي عَلَيْهِ مَنْ خَلْفَهُ، مِثْلَ الدُّكَّانِ يَكُونُ فِي الْمِحْرَابِ وَنَحْوِهِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَإِنْ فَعَلَ أَعَادُوا أَبَدًا، لِأَنَّهُمْ يَعْبَثُونَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دُكَّانًا يَسِيرَ الِارْتِفَاعِ مِثْلَ مَا كَانَ عِنْدَنَا بِمِصْرَ فَتُجْزِئُهُمُ الصَّلَاةُ، قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: مِثْلَ الشِّبْرِ وَعَظْمِ الذِّرَاعِ إِلَى أَنْ قَالَ: وَانْظُرْ إِذَا صَلَّى الْمُقْتَدِي كَذَلِكَ أَعْنِي عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ قَصْدًا إِلَى التَّكَبُّرِ عَنْ مُسَاوَاةِ الْإِمَامِ، قَالَ ابْنُ بَشِيرٍ: صَلَاتُهُ أَيْضًا بَاطِلَةٌ، اهـ. مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ، وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ لِأَنَّهُمْ يَعْبَثُونَ يَعْنِي بِرَفْعِ ذَلِكَ الْبُنْيَانِ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهِ الْإِمَامُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ هُودٍ مُخَاطِبًا لِقَوْمِهِ عَادٍ: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [26/ 128- 129]، وَإِذَا ارْتَفَعَتْ مَعَ الْإِمَامِ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُصَلِّينَ سَائِرَ النَّاسِ، أَعْنِي لَيْسَتْ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ وَأَعْيَانِهِمْ، فَفِي نَفْيِ الْكَرَاهَةِ بِذَلِكَ خِلَافٌ عِنْدَهُمْ وَإِلَيْهِ أَشَارَ خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ بِقَوْلِهِ: وَهَلْ يَجُوزُ إِنْ كَانَ مَعَ الْإِمَامِ طَائِفَةٌ كَغَيْرِهِمْ تُرَدِّدُ، هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَهُوَ أَنَّ ارْتِفَاعَ كُلٍّ مِنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ عَلَى الْآخَرِ مَكْرُوهٌ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَا يُكْرَهُ عُلُوُّ الْمَأْمُومِ عَلَى الْإِمَامِ، وَمَحَلُّ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الِارْتِفَاعِ غَيْرِ الْيَسِيرِ، وَلَا كَرَاهَةَ عِنْدَهُمْ فِي الْيَسِيرِ: وَقَدْرُ الِارْتِفَاعِ الْمُوجِبِ لِلْكَرَاهَةِ عِنْدَهُمْ قَدْرُ قَامَةٍ، وَلَا بَأْسَ بِمَا دُونَهَا، ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: وَقِيلَ هُوَ مُقَدَّرٌ بِقَدْرِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِامْتِيَازُ، وَقِيلَ: مُقَدَّرٌ بِقَدْرِ ذِرَاعٍ اعْتِبَارًا بِالسُّتْرَةِ، قَالَ صَاحِبُ تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ، وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْإِمَامِ جَمَاعَةٌ فِي مَكَانِهِ الْمُرْتَفِعِ، وَبَقِيَّةُ الْمَأْمُومِينَ أَسْفَلَ مِنْهُمْ فَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمُ انْتَهَى بِمَعْنَاهُ تَبْيِينُ الْحَقَائِقِ شَرْحُ كَنْزِ الدَّقَائِقِ.
وَأَمَّا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ عُلُوِّ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ، فَيُكْرَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَبَيْنَ عُلُوِّ الْمَأْمُومِ الْإِمَامَ فَيَجُوزُ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ أَعْلَى مِنَ الْمَأْمُومِينَ، سَوَاءٌ أَرَادَ تَعْلِيمَهُمُ الصَّلَاةَ، أَوْ لَمْ يُرِدْ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ اهـ. مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ، وَقَالَ فِي الْمُغْنِي أَيْضًا: فَإِنْ صَلَّى الْإِمَامُ فِي مَكَانٍ أَعْلَى مِنَ الْمَأْمُومِينَ فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَبْطُلُ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ اهـ. مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
فَإِذَا عَرَفْتَ مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ حُجَّةَ مَنْ كَرِهَ عُلُوَّ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ أَوْ مَنَعَهُ هِيَ مَا قَدَّمْنَا فِي قِصَّةِ جَبْذِ أَبِي مَسْعُودٍ لِحُذَيْفَةَ لَمَّا أَمَّ النَّاسَ، وَقَامَ يُصَلِّي عَلَى دُكَّانٍ، الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. وَحُجَّةُ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ لِلتَّعْلِيمِ حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي قِصَّةِ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَجَوَابُ الْمُخَالِفِينَ عَنْ صِلَاتِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، بِأَنَّهُ ارْتِفَاعٌ يَسِيرٌ، وَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِهِ، أَوْ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ، وَحُجَّةُ مَنْ أَجَازَ عَلَى الْمَأْمُومِ عَلَى الْإِمَامِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ صَلَّى بِصَلَاةِ الْإِمَامِ وَهُوَ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ: رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي صَالِحٌ مَوْلَى التَّوْءَمَةِ أَنَّهُ رَأَى أَبَا هُرَيْرَةَ يُصَلِّي فَوْقَ ظَهْرِ الْمَسْجِدِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْقَعْنَبِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ صَالِحٍ، وَرَوَاهُ سَعْدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِهِ، فَقَدْ رَأَيْتَ مَذَاهِبَ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَأَدِلَّتَهُمْ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وُجُوبُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَنَّ عُلُوَّ الْإِمَامِ مَكْرُوهٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِصَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِجَوَازِهِ لِلتَّعْلِيمِ دُونَ غَيْرِهِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا إِخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إِذَا ارْتَفَعَ رَأَوْهُ وَإِذَا نَزَلَ لَمْ يَرَهُ إِلَّا مَنْ يَلِيهِ، وَجَمْعُ بَعْضِهِمْ بِأَنَّ ارْتِفَاعَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ ارْتِفَاعٌ يَسِيرٌ وَهُوَ مُغْتَفَرٌ، أَمَّا عُلُوُّ الْمَأْمُومِ فَقَدْ تَعَارَضَ فِيهِ الْقِيَاسُ مَعَ فِعْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ ارْتِفَاعِ الْمَأْمُومِ قِيَاسًا عَلَى ارْتِفَاعِ الْإِمَامِ وَهُوَ قِيَاسٌ جَلِيٌّ، وَإِذَا تَعَارَضَ الْقِيَاسُ مَعَ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ فَمِنَ الْأُصُولِيِّينَ مَنْ يَقُولُ بِتَقْدِيمِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِتَقْدِيمِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَحْوَطَ تَجَنُّبُ عُلُوِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ عَلَى الْآخَرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَنْ فِي قَوْلِهِ: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا} [19/ 11]، هِيَ الْمُفَسِّرَةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا يُفَسِّرُ الْإِيحَاءَ الْمَذْكُورَ قَبْلَهَا، فَهَذَا الَّذِي أَشَارَ لَهُمْ بِهِ هُوَ الْأَمْرُ بِالتَّسْبِيحِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَنْ الْمَصْدَرِيَّةَ تَأْتِي مَعَ الْأَفْعَالِ الطَّلَبِيَّةِ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: أَوْحَى إِلَيْهِمْ أَيْ: أَشَارَ إِلَيْهِمْ بِأَنْ سَبِّحُوا، أَيْ: بِالتَّسْبِيحِ أَوْ كَتَبَ لَهُمْ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكِتَابَةُ، وَكَوْنُهَا مُفَسِّرَةً هُوَ الصَّوَابُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

.تفسير الآيات (12-15):

{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}.
اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّا قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا مَعَ بَعْضِ صِفَاتِهِ وَلَهُ صِفَاتٌ أُخَرُ مَذْكُورَةٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَإِنَّا نُبَيِّنُهَا، وَقَدْ مَرَّ فِيهِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ ذَلِكَ، وَأَكْثَرُهَا فِي الْمَوْصُوفَاتِ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ لَا الْأَعْلَامِ، وَرُبَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي صِفَاتِ الْأَعْلَامِ كَمَا هُنَا فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَعْضَ صِفَاتِ يَحْيَى، وَقَدْ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَسَنُبَيِّنُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمُرَادَ بِالْمَذْكُورِ مِنْهَا هُنَا، وَالْمَذْكُورِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
اعْلَمْ أَنَّهُ هُنَا وَصَفَهُ بِأَنَّهُ قَالَ لَهُ: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [19/ 12]، وَوَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ إِلَى قَوْلِهِ: وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا، فَقَوْلُهُ: يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَقُلْنَا لَهُ يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ، وَالْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ، أَيْ: خُذِ التَّوْرَاةَ بِقُوَّةٍ، أَيْ: بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ، وَذَلِكَ بِتَفَهُّمِ الْمَعْنَى أَوَّلًا حَتَّى يَفْهَمَهُ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ، ثُمَّ يَعْمَلَ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، فَيَعْتَقِدَ عَقَائِدَهُ، وَيُحِلَّ حَلَالَهُ، وَيُحَرِّمَ حَرَامَهُ، وَيَتَأَدَّبَ بِآدَابِهِ، وَيَتَّعِظَ بِمَوَاعِظِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ جِهَاتِ الْعَمَلِ بِهِ، وَعَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ هُنَا: التَّوْرَاةُ، وَحَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ، وَقِيلَ: هُوَ كِتَابٌ أُنْزِلَ عَلَى يَحْيَى، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ الْكُتُبَ الْمُقَدَّمَةَ، وَقِيلَ: هُوَ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ، وَالْأَظْهَرُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: إِنَّهُ التَّوْرَاةُ كَمَا قَدَّمْنَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ، أَيْ: أَعْطَيْنَاهُ الْحُكْمَ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِي الْمُرَادِ بِالْحُكْمِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ، مَرْجِعُهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ الْفَهْمَ فِي الْكِتَابِ، أَيْ: إِدْرَاكَ مَا فِيهِ وَالْعَمَلَ بِهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ صَبِيًّا، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، أَيِ: الْفَهْمَ وَالْعِلْمَ وَالْجِدَّ وَالْعَزْمَ، وَالْإِقْبَالَ عَلَى الْخَيْرِ وَالْإِكْبَابَ عَلَيْهِ، وَالِاجْتِهَادَ فِيهِ وَهُوَ صَغِيرٌ حَدَثٌ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الصِّبْيَانُ لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا: اذْهَبْ بِنَا نَلْعَبُ، فَقَالَ: مَا لِلَّعِبِ خُلِقْنَا فَلِهَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَعْطَيْنَاهُ الْفَهْمَ بِكِتَابِ اللَّهِ فِي حَالِ صِبَاهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ أَسْنَانَ الرِّجَالِ، وَقَدْ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَعْمَرٌ وَلَمْ يَذْكُرْهُ عَنْ أَحَدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ الصِّبْيَانَ قَالُوا لِيَحْيَى: اذْهَبْ بِنَا نَلْعَبُ، فَقَالَ:
مَا لِلَّعِبِ خُلِقْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ، أَيِ: الْحِكْمَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةَ ذُبْيَانَ:
وَاحْكُمْ كَحُكْمِ فَتَاةِ الْحَيِّ إِذْ نَظَرَتْ ** إِلَى حَمَامٍ سِرَاعٍ وَارِدِ الثَّمَدِ

وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَالْحُكْمُ النُّبُوَّةُ، أَوْ حُكْمُ الْكِتَابِ، أَوِ الْحِكْمَةُ، أَوِ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ، أَوِ اللُّبُّ وَهُوَ الْعَقْلُ، أَوْ آدَابُ الْخِدْمَةِ، أَوِ الْفِرَاسَةُ الصَّادِقَةُ، أَقْوَالٌ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي هُوَ أَنَّ الْحُكْمَ يُعْلَمُ النَّافِعُ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَذَلِكَ بِفَهْمِ الْكِتَابِ السَّمَاوِيِّ فَهْمًا صَحِيحًا، وَالْعَمَلِ بِهِ حَقًّا، فَإِنَّ هَذَا يَشْمَلُ جَمِيعَ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَأَصْلُ مَعْنَى الْحِكَمِ الْمَنْعُ، وَالْعِلْمُ النَّافِعُ، وَالْعَمَلُ بِهِ يَمْنَعُ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ مِنَ الْخَلَلِ وَالْفَسَادِ وَالنُّقْصَانِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {صَبِيًّا} أَيْ: لَمْ يَبْلُغْ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَقِيلَ: صَبِيًّا، أَيْ: شَابًّا لَمْ يَبْلُغْ سِنَّ الْكُهُولَةِ ذَكَرَهُ أَبُو حَيَّانَ وَغَيْرُهُ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، قِيلَ ابْنُ ثَلَاثِ سِنِينَ، وَقِيلَ ابْنُ سَبْعٍ، وَقِيلَ ابْنُ سَنَتَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَحَنَانًا، مَعْطُوفٌ عَلَى الْحُكْمَ، أَيْ: وَآتَيْنَاهُ حَنَانًا مِنْ لَدُنَّا، وَالْحَنَانُ: هُوَ مَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَالْعَطْفِ وَالشَّفَقَةِ، وَإِطْلَاقُ الْحَنَانِ عَلَى الرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: حَنَانَكَ وَحَنَانَيْكَ يَا رَبِّ، بِمَعْنَى رَحْمَتَكَ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
أَبِنْتَ الْحَارِثِ الْمَلِكِ بْنِ عَمْرٍو ** لَهُ مُلْكُ الْعِرَاقِ إِلَى عُمَانِ

وَيَمْنَحُهَا بَنُو شَمَجَى بْنِ جَرْمٍ ** مَعِيزَهُمُ حَنَانَكَ ذَا الْحَنَانِ

يَعْنِي: رَحْمَتَكَ يَا رَحْمَنُ، وَقَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ:
أَبَا مُنْذِرٍ أَفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا حَنَانَيْكَ ** بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ

وَقَوْلُ مُنْذِرِ بْنِ دِرْهَمٍ الْكَلْبِيِّ:
وَأَحْدَثُ عَهْدٍ مِنْ أَمِينَةَ نَظْرَةٌ ** عَلَى جَانِبِ الْعَلْيَاءِ إِذْ أَنَا وَاقِفُ

فَقَالَتْ حَنَانٌ مَا أَتَى بِكَ هَاهُنَا ** أَذُو نَسَبٍ أَمْ أَنْتَ بِالْحَيِّ عَارِفُ

فَقَوْلُهُ حَنَانٌ أَيْ: أَمْرِي حَنَانٌ، أَيْ رَحْمَةٌ لَكَ، وَعَطْفٌ وَشَفَقَةٌ عَلَيْكَ وَقَوْلُ الْحُطَيْئَةِ أَوْ غَيْرِهِ:
تَحَنَّنْ عَلَيَّ هَدَاكَ الْمَلِيكُ فَإِنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ لَدُنَّا} أَيْ: مِنْ عِنْدِنَا، وَأَصَحُّ التَّفْسِيرَاتِ فِي قَوْلِهِ: {وَزَكَاةً} أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ: أَوْ أَعْطَيْنَاهُ زَكَاةً، أَيْ: طَهَارَةً مِنْ أَدْرَانِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي بِالطَّاعَةِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِمَا يُرْضِيهِ: وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى إِطْلَاقِ الزَّكَاةِ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الطَّهَارَةِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَزَكَاةً} الزَّكَاةُ: التَّطْهِيرُ وَالْبَرَكَةُ وَالتَّنْمِيَةُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ، أَيْ: جَعَلْنَاهُ مُبَارَكًا لِلنَّاسِ يَهْدِيهِمْ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: زَكَّيْنَاهُ بِحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ كَمَا يُزَكِّي الشُّهُودُ إِنْسَانًا، وَقِيلَ: {زَكَاةً} صَدَقَةً عَلَى أَبَوَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ، وَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا، مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى: وَأَعْطَيْنَاهُ زَكَاةً، أَيْ: طَهَارَةً مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي بِتَوْفِيقِنَا إِيَّاهُ لِلْعَمَلِ بِمَا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّكَاةِ فِي الْآيَةِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، رَاجِعٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ هُوَ الَّذِي بِهِ الطَّهَارَةُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَكَانَ تَقِيًّا، أَيْ: مُمْتَثِلًا لِأَوَامِرِ رَبِّهِ مُجْتَنِبًا كُلَّ مَا نَهَى عَنْهُ، وَلِذَا لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً قَطُّ، وَلَمْ يُلِمَّ بِهَا، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ، وَفِي نَحْوِ ذَلِكَ أَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَرْفُوعًا، إِمَّا بِانْقِطَاعٍ، وَإِمَّا بِعَنْعَنَةِ مُدَلِّسٍ: وَإِمَّا بِضَعْفِ وَاوٍ، كَمَا أَشَارَ لَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى التَّقْوَى مِرَارًا وَأَصْلُ مَادَّتِهَا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ} [19/ 14]، الْبَرُّ بِالْفَتْحِ هُوَ فَاعِلُ الْبِرِّ بِالْكَسْرِ كَثِيرًا أَيْ: وَجَعَلْنَاهُ كَثِيرَ الْبِرِّ بِوَالِدَيْهِ، أَيْ: مُحْسِنًا إِلَيْهِمَا، لَطِيفًا بِهِمَا، لَيِّنَ الْجَانِبِ لَهُمَا، وَقَوْلُهُ: {وَبَرًّا} مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {تَقِيًّا}، وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا، أَيْ: لَمْ يَكُنْ مُسْتَكْبِرًا عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ وَطَاعَةِ وَالِدَيْهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُطِيعًا لِلَّهِ، مُتَوَاضِعًا لِوَالِدَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْجَبَّارُ: هُوَ كَثِيرُ الْجَبْرِ، أَيِ: الْقَهْرِ لِلنَّاسِ، وَالظُّلْمِ لَهُمْ، وَكُلُّ مُتَكَبِّرٍ عَلَى النَّاسِ يَظْلِمُهُمْ: فَهُوَ جَبَّارٌ، وَقَدْ أُطْلِقَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى شَدِيدِ الْبَطْشِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [26/ 130]، وَعَلَى مَنْ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ الْقَتْلُ فِي قَوْلِهِ: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ} الْآيَةَ [28/ 19]، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: {عَصِيًّا} فَعُولٌ قُلِبَتْ فِيهِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ عَلَى الْقَاعِدَةِ التَّصْرِيفِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ: الَّتِي عَقَدَهَا ابْنُ مَالِكِ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
إِنْ يَسْكُنِ السَّابِقُ مِنْ وَاوٍ وَيَا ** وَاتَّصَلَا وَمِنْ عُرُوضٍ عَرِيَا

فَيَاءُ الْوَاوِ اقْلِبَنَّ مُدْغِمَا ** وَشَذَّ مُعْطًى غَيْرُ مَا قَدْ رُسِمَا

فَأَصْلُ عَصِيًّا عَلَى هَذَا: {عَصُويًا} كَصَبُورٍ، أَيْ: كَثِيرَ الْعِصْيَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ فَعِيلًا وَهِيَ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ أَيْضًا، قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [19/ 15]، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ، أَيْ: أَمَانٌ لَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهَا التَّحِيَّةُ الْمُتَعَارَفَةُ، فَهِيَ أَشْرَفُ مِنَ الْأَمَانِ؛ لِأَنَّ الْأَمَانَ مُتَحَصَّلٌ لَهُ بِنَفْيِ الْعِصْيَانِ عَنْهُ وَهُوَ أَقَلُّ دَرَجَاتِهِ، وَإِنَّمَا الشَّرَفُ فِي أَنْ سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَحَيَّاهُ فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي الْإِنْسَانُ فِيهَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ، وَقِلَّةِ الْحِيلَةِ وَالْفَقْرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَظِيمِ الْحَوْلِ.
انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَرْجِعُ الْقَوْلَيْنِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَى سَلَامٌ، التَّحِيَّةُ، الْأَمَانُ، وَالسَّلَامَةُ مِمَّا يَكْرَهُ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ الْأَمَانُ، يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ الْأَمَانَ مِنَ اللَّهِ، وَالتَّحِيَّةُ مِنَ اللَّهِ مَعْنَاهَا الْأَمَانُ وَالسَّلَامَةُ مِمَّا يَكْرَهُ، وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ، تَحِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ لِيَحْيَى وَمَعْنَاهَا الْأَمَانُ وَالسَّلَامَةُ، وَقَوْلَهُ: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ مُبْتَدَأٌ، وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهِ وَهُوَ نَكِرَةٌ أَنَّهُ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ، وَإِنَّمَا خَصَّ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةَ بِالسَّلَامِ الَّتِي هِيَ وَقْتُ وِلَادَتِهِ، وَوَقْتُ مَوْتِهِ، وَوَقْتُ بَعْثِهِ، فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ الْآيَةَ؛ لِأَنَّهَا أَوْحَشُ مِنْ غَيْرِهَا، قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: أَوْحَشُ مَا يَكُونُ الْمَرْءُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ: يَوْمَ يُولَدُ فَيَرَى نَفْسَهُ خَارِجًا مِمَّا كَانَ فِيهِ وَيَوْمَ يَمُوتُ فَيَرَى قَوْمًا لَمْ يَكُنْ عَايَنَهُمْ، وَيَوْمَ يُبْعَثُ فَيَرَى نَفْسَهُ فِي مَحْشَرٍ عَظِيمٍ، قَالَ: فَأَكْرَمَ اللَّهُ فِيهَا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فَخَصَّهُ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ فِيهَا، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: إِنْ عِيسَى وَيَحْيَى الْتَقَيَا فَقَالَ لَهُ عِيسَى: اسْتَغْفِرْ لِي، أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، فَقَالَ الْآخَرُ: اسْتَغْفِرْ لِي، أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، فَقَالَ عِيسَى: أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، سَلَّمْتُ عَلَى نَفْسِي وَسَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَقَدْ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ: انْتَزَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي التَّسْلِيمِ فَضْلَ عِيسَى بِأَنْ قَالَ إِدْلَالُهُ فِي التَّسْلِيمِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَكَانَتُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي اقْتَضَتْ ذَلِكَ حِينَ قُرِّرَ وَحُكِيَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ أَعْظَمُ فِي الْمَنْزِلَةِ مِنْ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلِكُلٍّ وَجْهٌ، انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَلَامَ اللَّهِ عَلَى يَحْيَى فِي قَوْلِهِ: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} الْآيَةَ [19/ 15]، أَعْظَمُ مِنْ سَلَامِ عِيسَى عَلَى نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [19/ 33]، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.
تَنْبِيهٌ:
الْفَتْحَةُ فِي قَوْلِهِ: {يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [19/ 15]، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي الظُّرُوفِ الثَّلَاثَةِ فَتْحَةُ إِعْرَابٍ نَصْبًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فَتْحَةَ بِنَاءٍ لِجَوَازِ الْبِنَاءِ فِي نَحْوِ ذَلِكَ، وَالْأَجْوَدُ أَنْ تَكُونَ فَتْحَةُ يَوْمَ وُلِدَ فَتْحَةَ بِنَاءٍ، وَفَتْحَةُ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ فَتْحَةَ نَصْبٍ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ مَا قَبْلَ الْفِعْلِ الْمَاضِي أَجْوَدُ مِنْ إِعْرَابِهِ وَإِعْرَابِ مَا قَبْلَ الْمُضَارِعِ وَالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ أَجْوَدُ مِنْ بِنَائِهِ، كَمَا عَقَدَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَابْنِ أَوْ أَعْرِبْ مَا كَإِذْ قَدْ أُجْرِيَا ** وَاخْتَرْ بِنَا مَتْلُوِّ فِعْلٍ بُنِيَا

وَقَبْلَ فِعْلٍ مُعْرَبٍ أَوْ مُبْتَدَا ** أَعْرِبْ وَمَنْ بَنَى فَلَنْ يُفَنَّدَا

وَالْأَحْوَالُ فِي مِثْلِ هَذَا أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ أَنْ يُضَافَ الظَّرْفُ الْمَذْكُورُ إِلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ فِعْلُهَا مَبْنِيٌّ بِنَاءً أَصْلِيًّا وَهُوَ الْمَاضِي؛ كَقَوْلِ نَابِغَةَ ذُبْيَانَ:
عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ عَلَى الصِّبَا ** فَقُلْتُ أَلَمَّا أَصْحُ وَالشَّيْبُ وَازِعُ

فَبِنَاءُ الظَّرْفِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَجْوَدُ، وَإِعْرَابُهُ جَائِزٌ.
الثَّانِي: أَنْ يُضَافَ الظَّرْفُ الْمَذْكُورُ إِلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ فِعْلُهَا مَبْنِيٌّ بِنَاءً عَارِضًا، كَالْمُضَارِعِ الْمَبْنِيِّ لِاتِّصَالِهِ بِنُونِ النِّسْوَةِ، كَقَوْلِ الْآخَرِ:
لَأَجْتَذِبَنَّ مِنْهُنَّ قَلْبِي تَحَلُّمًا ** عَلَى حِينَ يَسْتَصْبِينَ كُلَّ حَلِيمِ

وَحُكْمُ هَذَا كَمَا قَبْلَهُ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُضَافَ إِلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ فِعْلُهَا مُعْرَبٌ، كَقَوْلِ أَبِي صَخْرٍ الْهُذَلِيِّ:
إِذَا قُلْتُ هَذَا حِينَ أَسْلُو يَهِيجُنِي ** نَسِيمُ الصَّبَا مِنْ حَيْثُ يَطَّلِعُ الْفَجْرُ

فَإِعْرَابُ مِثْلِ هَذَا أَجْوَدُ، وَبِنَاؤُهُ جَائِزٌ.
الرَّابِعُ: أَنْ يُضَافَ الظَّرْفُ الْمَذْكُورُ إِلَى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَلَمْ تَعْلَمِي يَا عَمْرَكِ اللَّهَ أَنَّنِي ** كَرِيمٌ عَلَى حِينِ الْكِرَامِ قَلِيلُ

وَقَوْلُ الْآخَرِ:
تَذَكَّرَ مَا تَذَكَّرَ مِنْ سُلَيْمَى ** عَلَى حِينِ التَّوَاصُلُ غَيْرُ دَانِ

وَحُكْمُ هَذَا كَمَا قَبْلَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَوْجُهَ إِنَّمَا هِيَ فِي الظَّرْفِ الْمُبْهَمِ الْمَاضِي، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الظَّرْفُ الْمُبْهَمُ مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ، فَإِنَّهُ لَا يُضَافُ إِلَّا إِلَى الْجُمَلِ الْفِعْلِيَّةِ دُونَ الِاسْمِيَّةِ، فَتَكُونُ فِيهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ دُونَ الرَّابِعِ، وَأَجَازَ ابْنُ مَالِكٍ إِضَافَتَهُ إِلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ بِقِلَّةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [51/ 13]، وَقَوْلِ سَوَادِ بْنِ قَارِبٍ:
وَكُنْ لِي شَفِيعًا يَوْمَ لَا ذُو شَفَاعَةٍ ** بِمُغْنٍ فَتِيلًا عَنْ سَوَادِ بْنِ قَارِبٍ

لِأَنَّ الظَّرْفَ فِي الْآيَةِ وَالْبَيْتِ الْمَذْكُورَيْنِ مُسْتَقْبَلٌ لَا مَاضٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا، قَالَ أَبُو حَيَّانَ: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى كَوْنِهِ مِنَ الشُّهَدَاءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِمْ: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [3/ 169].
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَجْهُ هَذَا الِاسْتِنْبَاطِ أَنَّ الْحَالَ قَيْدٌ لِعَامِلِهَا، وَصْفٌ لِصَاحِبِهَا، وَعَلَيْهِ فَبَعْثُهُ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهِ حَيًّا، وَتِلْكَ حَيَاةُ الشُّهَدَاءِ، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ كُلَّ الظُّهُورِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ صِفَاتِ يَحْيَى، وَذَكَرَ بَعْضَ صِفَاتِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [3/ 39]، وَمَعْنَى كَوْنِهِ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ مُصَدِّقٌ بِعِيسَى، وَإِنَّمَا قِيلَ لِعِيسَى كَلِمَةٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَوْجَدَهُ بِكَلِمَةٍ هِيَ قَوْلُهُ كُنْ فَكَانَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} الْآيَةَ [4/ 171]، وَقَالَ: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} الْآيَةَ [3/ 45]، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِكَلِمَةٍ: الْكِتَابُ، أَيْ: مُصَدِّقًا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَالْكَلِمَةُ فِي الْقُرْآنِ تُطْلَقُ عَلَى الْكَلَامِ الْمُفِيدِ، كَقَوْلِهِ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى} [7/ 137]، وَقَوْلِهِ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [6/ 115]،
وَقَوْلِهِ: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [23/ 100]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَبَاقِيَ الْأَقْوَالِ تَرَكْنَاهُ لِظُهُورِ ضَعْفِهِ، وَالصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَقَوْلُهُ: {وَسَيِّدًا} وَزْنُ السَّيِّدِ بِالْمِيزَانِ الصَّرْفِيِّ فَيْعِلٌ وَأَصْلُ مَادَّتِهِ س ود سَكَنَتْ يَاءُ الْفَعِيلِ الزَّائِدَةِ قَبْلَ الْوَاوِ الَّتِي هِيَ فِي مَوْضِعِ الْعَيْنِ، فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً عَنِ الْقَاعِدَةِ التَّصْرِيفِيَّةِ الْمُشَارِ لَهَا بِقَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
إِنْ يَسْكُنِ السَّابِقُ مِنْ وَاوٍ وَيَا الْبَيْتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ آنِفًا، وَأَصْلُهُ مِنَ السَّوَادِ وَهُوَ الْخَلْقُ الْكَثِيرُ، فَالسَّيِّدُ مَنْ يُطِيعُهُ، وَيَتَّبِعُهُ سَوَادٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ عَيْنَ الْمَادَّةِ وَاوٌ أَنَّكَ تَقُولُ فِيهِ: سَادَ يَسُودُ بِالْوَاوِ، وَتَقُولُ سَوَّدُوهُ إِذَا جَعَلُوهُ سَيِّدًا، وَالتَّضْعِيفُ يَرُدُّ الْعَيْنَ إِلَى أَصْلِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ الْعَامِرِيِّ:
وَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ ابْنَ سَيِّدِ عَامِرٍ ** وَفَارِسَهَا الْمَشْهُورَ فِي كُلِّ مَوْكِبِ

فَمَا سَوَّدَتْنِي عَامِرٌ عَنْ وِرَاثَةٍ ** أَبَى اللَّهُ أَنْ أَسَمْوَ بِأُمٍّ وَلَا أَبِ

وَقَالَ الْآخَرُ:
وَإِنَّ بِقَوْمٍ سَوَّدُوكَ لِحَاجَةٍ ** إِلَى سَيِّدٍ لَوْ يَظْفَرُونَ بِسَيِّدِ

وَشُهْرَةُ مِثْلِ ذَلِكَ تَكْفِي عَنْ بَيَانِهِ، وَالْآيَةُ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى إِطْلَاقِ السَّيِّدِ عَلَى مَنْ سَادَ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ» الْحَدِيثَ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا جَاءَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْحُكْمِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ» وَالتَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَحَصُورًا} [3/ 39]، أَنَّهُ الَّذِي حَصَرَ نَفْسَهُ عَنِ النِّسَاءِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِتْيَانِهِنَّ تَبَتُّلًا مِنْهُ، وَانْقِطَاعًا لِعِبَادَةِ اللَّهِ، وَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي شَرْعِهِ، وَأَمَّا سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ التَّزْوِيجُ وَعَدَمُ التَّبَتُّلِ، أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَصُورَ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَأَنَّهُ مَحْصُورٌ عَنِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُ عِنِّينٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِتْيَانِهِنَّ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْعُنَّةَ عَيْبٌ وَنَقْصٌ فِي الرِّجَالِ، وَلَيْسَتْ مِنْ فِعْلِهِ حَتَّى يُثْنَى عَلَيْهِ بِهَا، فَالصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَصُورَ هُوَ الَّذِي لَا يَدْخُلُ مَعَ الْقَوْمِ فِي الْمَيْسِرِ كَمَا قَالَ الْأَخْطَلُ:
وَشَارِبٍ مُرْبِحٍ بِالْكَأْسِ نَادَمَنِي ** لَا بِالْحَصُورِ وَلَا فِيهَا بِسَوَّارِ

قَوْلٌ لَيْسَ بِالصَّوَابِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، بَلْ مَعْنَاهَا هُوَ مَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَ إِطْلَاقُ الْحَصُورِ عَلَى ذَلِكَ صَحِيحًا لُغَةً، وَقَوْلُهُ: {وَنَبِيئًا} عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ بِالْهَمْزَةِ مَعْنَاهُ وَاضِحٌ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، مِنَ النَّبَأِ وَهُوَ الْخَبَرُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ؛ لِأَنَّ الْوَحْيَ خَبَرٌ لَهُ شَأْنٌ يُخْبِرُهُ اللَّهُ بِهِ، وَعَلَى قِرَاءَةٍ: بِالْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهُ كَمَعْنَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ، إِلَّا أَنَّ الْهَمْزَةَ أُبْدِلَتْ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِيهَا، لِلْيَاءِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ كَالْقِرَاءَتَيْنِ السَّبْعِيَّتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [9/ 37]، بِالْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مِنَ النَّبْوَةِ بِمَعْنَى الِارْتِفَاعِ لِرِفْعَةِ النَّبِيِّ وَشَرَفِهِ. وَالصَّالِحُونَ: هُمُ الَّذِينَ صَلَحَتْ عَقَائِدُهُمْ، وَأَعْمَالُهُمْ، وَأَقْوَالُهُمْ، وَنِيَّاتُهُمْ، وَالصَّلَاحُ ضِدُّ الْفَسَادِ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى يَحْيَى بِالصَّلَاحِ مَعَ مَنْ وَصَفَ بِذَلِكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [6/ 85].